الثلاثاء، 9 ديسمبر 2008

المتغيرات البنيوية في النظام الرأسمالي

تاج السر عثمان


احدثت ثورة العلم والتكنولوجيا متغيرات عميقة في تركيب المجتمعات الرأسمالية، فماهو جوهر هذه الثورة؟

ارتبط العلم بالانتاج مباشرة، ادى ذلك الى زيادة انتاجية العمل الى حدود غير مسبوقة وانتجت للانسان قدرة هائلة في السيطرة على مصادر الطاقة، بل واتسعت هذه السيطرة ليصبح الانسان قادرا على السيطرة على ظواهر كثيرة، وبالعقول الالكترونية، اصبح في الوسع اثبات أو نفي كثير من النظريات في فترة زمنية وجيزة. كما استندت هذه الثورة على الاوتوماتية التي تعني ادماج المراحل الانتاجية المختلفة للسلعة في سلسلة متصلة تقوم بها الالات المتعددة دون تدخل من الانسان في اى من هذه المراحل. كما استندت هذه الثورة على ( المعلوماتية) أو الاتصالات اللاسلكية بالراديو والتلفزيون والكمبيوتر(الانترنت)..الخ، والتي تم فيها الربط بين الالكترونيات الدقيقة وصناعة المعلومات، ليس فقط في مجال تخزين المعلومات ومعالجتها واسترجاعها ونقلها، بل في صنع أجهزة متنوعة تقوم بوظائف الادارة والمراقبة وتحليل المعلومات واصدار القرارات، ولم يعد وجود الانسان ضروريا في كل مراحل عملية الانتاج. كما تمكنت من خلال سيطرتها على كل المعلومات المتعلقة بتصميم المنتج وصنعه وتسويقه من تقصير دورة الانتاج وتخفيض التكاليف.هذا اضافة للهندسة الوراثية والتي قامت على أساس احداث تغييرات صناعية في النشاط البيولوجي للخلايا بهدف الحصول على منتجات جديدة أو عمليات جديدة تضاعف انتاجية النبات والحيوان. هذا اضافة الى ثورة تكنولوجيا المواد والتي تعتمد على الكيمياء لاستحداث مواد جديدة بهدف زيادة جودة المنتج. وهذه التحولات كما هو معلوم كانت بهدف وضع النتائج التي يصل اليها العلم مباشرة في عمليات انتاج صناعية عن طريق الوحدة العضوية بين العلم والتكنولوجيا وبسرعة بالغة، حتى اصبح الاكتشاف العلمي يعرف من خلال التطبيق الانتاجي، اذ لم يعد هناك فارق زمني كبير يمر بين الاكتشاف والتطبيق.

فماهي أهم المتغيرات التي احدثتها هذه الثورة في بنية المجتمعات الرأسمالية؟.

احدثت ثورة العلم والتكنولوجيا تحولات بنيوية في تركيب المجتمعات الرأسمالية المتطورة، على سبيل المثال: احدثت تغيرا كيفيا شاملا على العمل البشري. فكما قامت الثورة الصناعية الأولي باستبدال الجهد العضلي للانسان والحيوان بالالات، قامت الثورة العلمية التقنية باحلال اجهزة تحل محل العمل العضلي تلقائيا وذاتيا واوتوميا، وتقوم بوظائف العقل البشري. واذا كان نظام الرق كما هو معلوم يتطلب قوة عضلية كاملة، وكان نظام الاقطاع يحتاج الى مجهود عقلي يكفي للانتاج البسيط، والثورة الصناعية تطلبت عقلا كاملا، نلاحظ ان الثورة العلمية التقنية، لايمكن ان يوجد فيها العامل المناسب الا باستيعاب قدر هائل من العلم يكتسب بالتعليم والثقافة والتدريب، عموما الثورة العلمية التقنية تتطلب ارتفاعا كبيرا في رأس المال الثابت، اى زيادة في التركيب العضوي لرأس المال كما كان يقول ماركس.

من خلال الثورة العلمية التقنية، كما يقول د. فؤاد مرسي: استطاعت التشكيلة الرأسمالية ان تجدد نفسها وتجد متنفسا لتنشيط استثماراتها، واوجدت لنفسها فرصا جديدة للنمو، باتساع الحيز الذي اصبح متاحا لها استخدامه تكنولوجيا، كما استطاعت الرأسمالية ان ترفع المستوي العام للانتاج وتحدث تطورا هائلا في القوى المنتجة(أي وسائل الانتاج والعمل البشري).

منذ اندفاع الثورة العلمية التقنية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، نلحظ في كل المجتمعات الرأسمالية المتطورة، منذ أواسط الخمسينيات انخفاضا منتظما في عدد الشغيلة اليدويين ، وصعودا لذوي الياقات البيضاء والذهبية (قوى العمل الماهرة جدا التي تشمل العلماء والمهندسين ومبرمجي الكمبيوتر والاداريين والاقتصاديين..الخ، وهم ايضا عاملون باجر ويتعرضون للاستغلال الرأسمالي، وتستحوذ الطبقات الرأسمالية على فائض القيمة منهم، رغم دخولهم الكبيرة).وبالتالي اتسع مفهوم الطبقة العاملة الذي اصبح يضم العاملين بأجر يدويا وذهنيا، اى قوى الكدح العضلي والذهني.

ومنذ ذلك الوقت جرت مناقشات واسعة وسط الماركسيين وغيرهم تناولت المتغيرات في تركيب الطبقة العاملة، وعلى سبيل المثال: عالجت الأحزاب الشيوعية في غرب اوربا المتغيرات بعد الحرب العالمية الثانية، وعمقت ووسعت مفهوم الدور القيادي للطبقة العاملة، فالحزب الشيوعي البريطاني مثلا: منذ عام 1951م تخلى عن شعار (ديكتاتورية البروليتاريا)، وطرح شعار الاطار الديمقراطي للاشتراكية والوصول اليها عبر البرلمان والتعددية الحزبية.

كما طرح الحزب الشيوعي الاسباني شعار: وحدة قوى الثقافة والعمل في اتجاه الاعتراف بدور العاملين المهنيين والعلميين والمثقفين على وجه العموم.

كما أشار غرامشي سكرتير الحزب الشيوعي الايطالي السابق الى ضرورة الموقف النقدي كما ورد في مؤلفه (دفاتر السجن) والتي تعتبر عملا فلسفيا عظيما، يؤكد فيه على أنه من المستحيل صياغة نظرية فعّالة دون ممارسة نقد ذاتي. أشار الحزب الشيوعي الايطالي الى تحول المجتمع الرأسمالي المعاصر وتخلي البلدان الرأسمالية الصناعية عن الركض وراء فائض القيمة المطلق، وفي الوقت نفسه عن التمييز الجائر والحقوقي بحق الطبقة العاملة، واصبح الاتجاه الرئيسي للتطور هو الركض وراء فائض القيمة النسبي ورفع انتاجية العمل ، وبالتالي الاستخدام الأمثل للتقنية الجديدة وتوسيع مجال الخدمات، كما ترسخ الحق الانتخابي، وعوضا عن وضع (ديكتاتورية البروليتاريا) في مواجهة الديمقراطية البورجوازية الضيقة، ظهرت بهذا الشكل مهمة تطوير الطاقة الكاملة للديمقراطية، ويمكن أن تكون هذه الطاقة ثورية حقا، اذا ماحكم المجتمع على أساس اجماع الأغلبية، واعتمد بالتالي على قدرتنا بالظفر على أساس (الهيمنة)، لقد تحدث غرامشي عن مثل هذا الاجماع وتلك (الهيمنة).

كما تحدث الحزب الشيوعي السوداني ومنذ دورة اللجنة المركزية في اغسطس 1977م عن الوصول للنظام الوطني الديمقراطي بطريق ديمقراطي جماهيري تعددي.

كما اهتم المفكرون والسياسيون من بلدان العالم الثالث بالتغيرات البنيوية التي تمت في المجتمعات الرأسمالية المتطورة بسبب الثورة العلمية التقنية، وبسبب ادخال تكنولوجيات جديدة، ولاحظوا شدة استغلال بلدان العالم الثالث في ظروف ثورة العلم والتكنولوجيا، واثرها على اعادة انتاج التخلف الاقتصادي والاجتماعي في تلك البلدان، والتي ترسف تحت اغلال ديون ثقيلة (على سبيل المثال بلغت ديون السودان 31 مليار دولار في حين أن اصل الدين 12 مليار دولار، أي كل دولار يربح اكثر من 2 دولار!!).

ومن الجانب الاخر تعمق التناقض الرئيسي في المجتمعات الرأسمالية وهو التناقض بين الطابع الاجتماعي للانتاج والتملك الخاص لوسائل الانتاج، اضافة لدخول الرأسمالية في مرحلة الشيخوخة التي تتجلي في تدمير البيئة، والبطالة وتشريد الملايين من العاملين، وخلق بؤر من الصراعات الاقليمية لترويج تجارة الأسلحة، اضافة للشراسة التي اصبحت تتميز بها امريكا كما يتجلى في التدخل المباشر واحتلال بعض البلدان كما حدث في العراق تحت مظلة فرية اسلحة الدمار الشامل، وصرف اكثر من ترليون دولار على حرب العراق في الخمسة اعوام الماضية.

كما تتلخص الأزمة البنيوية للنظام الرأسمالي في الاتي:

أ- التباطؤ الشديد في معدل وتائر ونمو الانتاج الصناعي.

ب- ضعف الفروع التقليدية في الصناعة الثقيلة وانحطاطها الأمر الذي يعوض عنه بصورة جزئية فقط عن طريق توسيع مجمع الكمبيوترات الالكتروني.

ج- عدم التوازن في التجارة والمدفوعات الدولية.

د- الحمى المالية والافراط في المضاربة والتي كان نتائجها الأزمة المالية الراهنة، على سبيل المثال قبل الازمة المالية الحالية كانت روؤس الاموال العائمة في المضاربات تقدر باكثر من ثلاثة ترليون دولار.

ه- الاشكال الجديدة لنهب البلدان النامية وأزمة الدين العالمي المزمنة.

و_ نزعة انخفاض الأجور الحقيقية ومستوى حياة الطبقة العاملة الى جانب اغتناء القلة الرأسمالية بشكل فاحش لامثيل له في السابق .

ز- الأزمات المالية الحادة (مثل الأزمة المالية الراهنة) والاقتصادية العميقة في عدد من البلدان.

ح- عسكرة الاقتصاد التي تميز قبل كل شئ الولايات المتحدة الامريكية، اضافة الى نمو قدرة المجمع الصناعي العسكري المالي.

ولاشك أن التراكم الكمي للتغيرات البنيوية في المجتمعات الرأسمالية المتطورة سوف يؤدي الى تحولات نوعية تؤدي الى نفي الرأسمالية نفسها ، اي ان الاشتراكية التي تتخلق الان في احشاء النظام الرأسمالي سوف تقوم بنفيه، بعد ان وصل مرحلة الانحطاط التي تشكل خطورة على الحضارة البشرية، وهذا الانحطاط نابع من صراع الوحوش بين اقطاب الدول الرأسمالية من اجل السيطرة العسكرية والاقتصادية على العالم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق