الأربعاء، 10 ديسمبر 2008
فى الرد على أستاذ أمين حسن عمر
(1 من 5)
بؤس فكر إنتلجنسيا الحركة الإسلامية الرثّة: عقود انحطاط وإعادة إنتاج الشمولية
أُمثولة استاذ أمين حسن عمر مثقف الحركة الإسلامية العضوى[1]
ونخب اُخرى
الفاضل الهاشمى/كندا elsharief@gmail.com
محاولة تعريف الخطاب وجدل الخطاب والنيولبرالية:
استخدامنا للخطاب فى الورقة يتحرك فى المستويات التالية:
أولا: ماتوصّل اليه المختار الفجارى من أن جوهر مادة خطب هو الكلام الحامل لرسالة ، المعتمد على سلطة ما لتبليغها للناس[2]. ويمكن أن يوازى معنى الآية (وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب). وفصل الخطاب فُسّر بأنه يفصل بين الحق والباطل [3].
ثانياً: إن انتاج الخطاب فى كل مجتمع يخضع لرقابه و لاصطفاء و لتنظيم و من ثمّ لاعادة توزيع وفقا لتدابير تهدف الى تحاشى سلطة و اخطار الخطاب واستبعاد اثر الاحداث عليه وتجنب ماديته الثقيلة (ماركس/انجلز الايدولوجيا الالمانيه)
ثالثاً: عرّف معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة الخطاب أنه "مجموع التعابير الخاصة التي تتحدد بوظائفها الاجتماعية ومشروعها الأيديولوجي [4]"
رابعاًً: يقول ميشيل فوكو (فى نظام الخطاب) ان الخطاب قد يبدو فى الظاهر "قليل الخطر، و لكن المحظورات التى تحيط به تكشف بسرعة عن علاقات الخطاب نفسه مع الرغبة و السلطة..... انه بحد ذاته موضوع لصراعات الانسان" وقد حاولنا فى هذه الورقة التى هى جزء من كتاب تحليل خطاب حركة الإسلام السياسى السودانية التى سطت على السلطة السياسية وفرضت مشروع هندسة اجتماعية حضارى عبر دراسة ورقة أستاذ أ.ح.عمر [5] ثم راجعنا خطاب نُخب الحركة الإسلامية السودانية منذ 1983.
جدل الخطاب:
العلاقة بين الخطاب وعناصر اخرى من الممارسات الاجتماعية علاقة جدلية كون الخطاب يَقبل (يَستدخِل)
internalize
العناصر الأخرى ويُقبل (يُستدخَل) من تلك العناصر من دون أن يتم اختزال أحدهما وتذويبه نهائياً فى الآخر.
بمعنى أنهما، أى الخطاب والممارسات الاجتماعية، مختلفان وغير منفصلان. فى المنظور التاريخى، أى فى عمليات التغيير الاجتماعى، يهتم جدل الخطاب بالسُبل والظروف التى تمت فيها عمليات الاستِدخال بينهما.
مثلاً اذا اعتبرنا فكرة "اقتصاد المعلومات (العلم والتقنية) ومجتمع المعلومات" التى تُستخدم فى خطاب الرأسمالية الغربية نكون فى الحقيقة نتحدّث عن تغيير نوعى تنساق فيه العمليات الاقتصادية والاجتماعية بالمعلومات وتتبع لها. ذلك لأن التغييرالاجتماعى يتم من خلال تخلّق وتوزيع وتشغيل المعارف فى العمليات الاجتماعية والاقتصادية والمقصود هنا ابراز الدورالمتعاظم للمعلومات. فمن ينساق بالمعلومات هو بمثابة من ينساق بالخطاب: بمعنى أن المعلومات تُخلّق وتُوزّع كخطابات وأن العملية التى من خلالها تشتغل الخطابات فى الاقتصاد والمجتمعات هى جدل الخطاب، حسب نورمان فيركلف[6].
وفيما يخص استعمالنا للخطاب هنا فهو يشمل تمثلات الكائن وماسوف يكون (الخيالى/الشاطح). وتكون المعلومات فى اقتصاد المعلومات هو المتخيّل الشاطح. وفى مجال الممارسة الاجتماعية يتم تخيّل ممارسة اجتماعية ممكنة وموالفات شبكات ممارسات وأنشطة وعلاقات اجتماعية وقيم وأشكال وعى. هذه التخيّلات يتم تشريعها وفرضها
Enacted and inculcated
كممارسات واقعية كما فى المخابز الإسلامية والمطاعم الإسلامية والزى الإسلامى والتخزين والمضاربات الإسلامية والمصارف الإسلامية أوالمشروع الحضارى و"شجراً يسير أو يهلّل للشهداء" أو فلنقل تصبح مرجعية إسلامية تستبطن وتستدخل المخبز والمطعم والزى والمصرف والشارع (الإسلامى) والأشجار فى الخطاب الإسلامى. ألم يتفاخر أستاذ أ.ح.عمر بالمرجعية الإسلامية حين هتف: "فالإسلام قد صار وحده هو المرجعية التي يحيل إليها العلمانيون عند محاكمة كسب الدولة أو الحركة الإسلامية. وهذا هو النجاح الأكبر للحركة الإسلامية. لأن مطلوبها الأعظم كان هو عودة التحاكم للإسلام واعتماده المرجعية الأساس لقياس كسب الفرد أو المجتمع أو الدولة. ولاشك أن كسب الأفراد والجماعات والدول يقصر كثيراً عن المثالات الإسلامية" ؟؟
رغم ذلك فان الزمكان(المسافة وزيادة!) بين "كسب" الجميع و"المثالات الإسلامية" لا يؤول الى الصفر إمعاناً فى إعلاء شأن المُتخيّل. وهنا يتم تغيير اجتماعى نوعى من خلال تخلّق وتوزيع وإشتغال
operationalization
المرجعيات الإسلامية فى حيوات المجتمعات الإسلامية: ملبسها ومتجرها وبنوكها وخبزها وفومها وعدسها المُخزّن تبعاً لصيغ التخزين الإسلامى. وفى جدل الخطاب الإسلامى يصبح بنعمته تعالى:
“ Islam-driven” amounts to “discourse-driven”
يتم إسقاط (بل تشريع وغرس) المُتخيّل/الشاطح على واقع الممارسات وشبكاتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، حينئذٍ تصبح الأنشطه والعلاقات الاجتماعية المتخيّلة أنشطه وعلاقات اجتماعية واقعية/حقيقية.
والتشريعات فى التحليل النهائى تشمل تجسيد الخطابات، خطابات اقتصادية ومالية تشمل البنوك ومرابحات الفائدة وقوانينها وبرامج التكيّف الهيكلى وخصخصة التعليم والصحة والبنيات التحتية والنيولبرالية. والخطابات كمتخيّلات، عند نورمان فيركلف، يمكن أن تنغرس/تتمظهر
inculcated
كأساليب حياة جديدة، كهويات جديدة. هنا تماهت الفكرة (الخطاب) وعربدت وأصبحت بنعمته أكثر من مستقلة عبر جدل الخطاب مع البنية التحتية واستدخالها واستبطانها وأصبحت شجرة النظرية مخضرّة كشجرة الحياة. هنا الموضوع يعتمد على الذات كما فى نظام الإنتاج والإدارة التيلورى الذى يعتمد على تغيّرات فى أساليب وهويات العمال [7] ؛ وهذا تالله باب تخرج منه الريح وتدخل. تغيير الذات، حسب نورمان فيركلف، يتم إبّان انغراس خطابات جديدة ؛ مثلاً حينما يموضع الناس أنفسهم داخل الخطاب فيفعلون ويفكرون ويتكلمون ويرون أنفسهم عبر خطابات جديدة. أول مراحل الانغراس، كعملية معقدة، هو الانتشار البلاغى الذى يحدث حين يتعلم الشخص خطابات جديدة ويستعملها لأغراض محدّدة ثم فى نفس اللحظة يضع بينه وبينها مسافة بوعى. ومن أحد مفارقات جدل الخطاب هو العملية التى ينتهى فيها تملّك ما بدأ أصلاً كانتشار بلاغى وبوعى ذاتى: حالة كون الإنسان يتموضع، دون وعى، داخل الخطاب!. ومن مظاهر انغراس الخطاب مادياً كونه ينغرس فى الأساليب وطرق استخدام اللغة والأجساد والمواقف والمبادرات وطريقة الحركة الخ [8].
النيولبرالية:
مشروع النيولبرالية هو مشروع سوشيو-سياسى اقتصادى "لإعادة هيكلة وإعادة مقايسة العلاقات الاجتماعية حتى يتسنّى لها أن تنسجم مع المتطلبات غير المحدودة للرأسمالية المعولمة [9]" ومن صفاتها ومصطلحاتها: هيمنة الشركات متعدّدة الجنسية، وصْفات صندوق النقد الدولى والبنك الدولى ومنظمة التجارة العالمية، الخصخصة، نهاية العقد الاجتماعى الذى ميّز دولة الرفاه، حكومة بدون حكم، اقتصاد المعلومات الخ. ولأن المشروع النيولبرالى قد هيمن تماماً على المشهد السياسى كونه جرّد القوى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التى تدعو الى بدائل راديكالية وثورية من أسلحتها وعنفوانها وبذات القدر قوّض الديموقراطية لانه أغلق أبواب الحوار والتفاوض. قادت ضغوط المشروع النيولبرالى الى ضم كل الدول والتكتلات الإقليمية تحت رحمة اعصارها الصاخب بإعادة هيكلة اقتصادياتها على غِرار إملاءات قوى السوق التى تُسوّق وتسوّغ على اساس انها موضوعية ومحايدة [10]. لكننا نود أن ننبه الى حقيقة جوهرية فى تحليلنا هى أنه لا يوجد السوق، كآلية من آليات اعادة انتاج راس المال، خارج العلاقات الاجتماعية بمعنى أنه لايوجد سوق بمعزل واستقلال عن هذه العلاقات يعمل على إملاء قانونه على العمال والمخدِمين. ولذلك لاتوجد رأسمالية خارج السياسة والدولة سواء فى المراكز او الأطراف [11] (والأخيرة تصبح أكثر توحّشاً) وهذه ورطة متأصّلة وملازمة لحركة الإسلام السياسى والدولة الدينية والتى لاراد لها حتى يوم الدين. السوق طبيق التراكم الرأسمالى البدائى والأخير طبيق العنف الاجتماعى والسياسى وصنوه. فى مرحلة الرأسمالية المعاصرة ازدادت تناقضات الرأسمالية الثلاثة حسب سمير أمين (الاستلاب السلعى والاستقطاب العالمى وتدمير القاعدة الطبيعية) وساهم خطاب الاستلاب المتجدد فى إعطاء شرعية للامساواة وتطبيع الظلم فى توزيع الإنتاج المادى الاجتماعى وفى تنظيم السلطة والنفوذ فى جميع مراحلها سواء على مستوى المنشأة ام الدولة [12]. وبهذا الفهم فان الرأسمالية أكبر من السوق وهى أحوج ماتكون الى تدخّل الدولة المكشوف كما فى ازمة العقارات والأسواق المالية فى النظام الرأسمالى فى 2008 حتى تنمسخ الديمقراطية الى رهاب يحسبه ظمآ الضواحى للديموقراطية ماء.
اذا كانت النيولبرالية تعتمد على الثورة المعلوماتية فانها بنفس القدر تعتمد على الخطاب حيث لم يفت على الباحثين ملاحظة أهمية دور اللغة والخطاب فى تفسير تحولات الرأسمالية وبناء حزمة مفردات لغوية جديدة تميّز هذا الوضع منها: المرونة فى التخديم، العولمة، الإقصاء، الحكم
governance
الخ. وقد نُفخت فى روح هذا الخطاب طاقة أدائية تحاول إنزال ادّعاءآته وشطحاته الى أرض الواقع المعاش [13].
وبطريقة تقارب دور الخطاب فى النيولبرالية نجد ان الحركة الإسلامية أسّست لحزمة خطاب من شاكلة التخزين الإسلامى، المخبز الإسلامى، البنك الإسلامى، الزى الإسلامى، الثوابت، التمكين الخ.
هكذا يلعب خطاب الحركة الإسلامية دور ازالة الألغام من طريق مشروع النيولبرالية السياسى لإخراج وتخريج السياسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية (والجهادية) ولهذا تحاصره الركاكة من كل صوب. ثم بقدرات اسطورية تحاول تحويل رغباتها وتهويمها وشطحاتها الى حقائق واقعة مثلما يحوّل الملك ميداس فى الأسطورة الإغريقية كل ماتمسّه يداه الى ذهب.
مدخل نظرى: أزمة الوصْل والفصْل فى الخطاب الإسلامى
يكتسب تعريف الخطاب مشروعيته هنا من طبيعة المادة التى يتناولها والسياق الزمكانى الذى أخذت ملامحها منه ونزعم أن الخطاب هنا لا يعتمد على مصادر مسبقة وبنيات ايديولوجية مغلقة بل بشواهد وحجج وبراهين نثبتها من خلال معايشات وقعت ومنطق يصدرمن أحكام الواقع وقوانينه المتغيرة وليس من أحكام القيمة.
نزعم أن خطاب الحركة الإسلامية يندرج فى منظومة معرفية نيولبرالية هابطة ومغلقة بحكم موقعها من منظومة الرأسمالية الإمبريالية التى لم تسعفها معطيات تطور العلم والتكنولوجيا من النظر النقدى لحقائق حدة الاستقطاب العالمى بين مراكز الشمال وضواحى الجنوب التابعة وتوحّشها المستدام فى فرض سياسات اقتصادية-اجتماعية جائرة على شعوب الجنوب وحده. وبحكم عدم اصوليته وتبعيته الذليلة يستثمر خطاب الحركة الإسلامية خطاب النيولبرالية حينما يتعلق الأمر بأحكام الواقع الاقتصادى والاجتماعى والسياسى ثم يدّعى ثقافياًً (حضاريّاً) نقيضها. هذا ما اسميه بأزمة الوَصْل والفَصْل: وَصْل الحركات الإسلامية، وبشطط لامزيد عليه، مع مبادئ ومناهج وسياسات وتوجيهات اقتصاديات الغرب النيولبرالى ثم ادّعاء الفَصْل معها ثقافياً وحضاريّاً فى آن. ولهذا فان سياق خطاب الحركة الإسلامية لا يؤهله لإنتاج آليات أصولية خاصة به تميّزه عن الخطاب النيولبرالى، وانّ مقولاته ومصطلحاته تولد مُغلقة وميّته ومن ثم لا تتحلى بصفة عبر- التخصصية. بل ان مقولاتها لا تتباين فى الباطن من حيث البنية والوظيفة من منطلقات الرأسمالية مثل مصطلحى المضاربة الربحية (الذى هو نفسه معدّل الفائدة الربحية) ومصطلح الزكاة الذى أصبح أداة توزيعية غير فعالة بحساب العدالة الاجتماعية التى كان يجب أن تعالج على مستوى الإنتاج المادى وملحقاته. لقد قصّر مفهوم الزكاة عن ارتياد آفاق مفهوم العدالة الاجتماعية ولم يرق الى سقفها. لذلك نجد منظرى الحركة الإسلامية، مثلهم مثل منظرى الاقتصاد النيوكلاسيكى، يهتمون بمتغيرات مثل متوسط دخل الفرد أكثر من اهتمامهم/ن بآليات توزيع الموارد. مفهوم الزكاة محاولة غير فعّالة لمعالجة مسألة الفقر فى مستوى أقل من مفهوم المساواة. و مفهوم المساواة أقل طموحاً من مفهوم العدالة الذى يبتغى متطلبات اجتماعية أكثر عُمقاً. يرتبط مفهوم المساواة بـ راهنيّة الحاضر (الآن وهنا) أما مفهوم العدالة فيذهب عميقاً وبعيداً فى مساءلة الظاهرة الاجتماعية. يتعقّد الأمر ليس لفصليّة الزكاة (سنويتها) وكونها فُصّلت لظروف القرن السابع الميلادى فحسب وإنما لغياب العقلانية والموضوعية اصلاً فى توزيع فتات ضئيل وموسمى على هذا الجسد الهائل من الشعب السودانى كون 95% منهم يئن تحت ثقل خط الفقر!. يستهدف مفهوم العدالة محصّلات توزيع الموارد والنفوذ والظلم التاريخى الواقع ؛ مثلما حاولت تجربة التمييز الإيجابى فى أمريكا استكناه واستصحاب متغير ظلم الزنوج الأمريكان كمعطى تاريخى.
أما فيما يتعلّق بمحاولة تجاوز سعر الفائدة وكأنه فائدة ربوية ثم استخدام حيلة الفائدة الربحية (وتسميتها بـ المرابحة أو المضاربة) فإنه حرثٌ فى بحرالمنطق. ذلك لأن الأسعار لازمة من لوازم الإنتاج السلعى الرأسمالى فى حركته التبادلية فى أسواق البضائع والخدمات والأموال. لذلك ينتمى السعر عموماً الى مصدره وحركته (الأجر فى سوق العمل، وسعرالصرف فى سوق العملة خارجيًاً، وسعرالفائدة فى التسليف من جهة ولعلاقة سعر الفائدة العكسية مع الطلب على الاستثمار من جهة أخرى وكذلك معدّل الربح). ولذلك فان سعر الفائدة صائر ومُضمّن فى كل عملية تسليفية حتى ولو تحايلنا عليه وسميناه معدل ربح أو فائدة ربحية.
نظرة الحركة الإسلامية للسوق، مثلها مثل المنظور الرأسمالى للسوق، تأخذ منحىً خارقاً وأُسطورياً فى الخطاب حيث يتم الخضوع لقوانين السوق التى تصبح حقيقة أزلية أكبر من الاقتصادى والاجتماعى؛ انه سوق مستقل عن كل شئ وغير ملوّث بالساسة [14]. يتطوّر هذا المشهد الواهم للسوق بحيث يصدّق المواطن المؤمن وغيرالمؤمن عدم وجود سياسات خفية وغير معترف بها تعمل باستمرار بجانب السياسات المالية وسياسات الميزانية المعترف بها والتى تناقش فى البرلمان والصحف. يكتمل هذا المشهد ماوراء الفيزيائى باعتقاد ان للسوق يدان خفيّتان ساحرتان تشتغلان بكفاءة اسطورية لتوزيع الخيرات. لذلك لا تسعى الحركة الإسلامية لاستشكال مفهوم السوق مثلما لم يجرؤ بعض التقدميين عندنا من استشكال مفهوم وواقع الديموقراطية البرجوازية.
على هذه الخلفية النظرية نحاول مقاربة "كتاب" الحركة الإسلامية فى السودان. و[الـ]كتاب هنا صنو الخطاب الذى ورد فى القران كقوله تعالى: "هاؤم إقرأوا كتابيا" بمعنى إقرأوا أنشطتى وأفعالى وسياساتى واستراتيجياتى ومردودها الأرضى على العباد وعلى كل كبدةٍ رطبة. قصدت هنا مقاربة تنظر فى أزمة الوصْل مع النيولبرالية والفصْل عنها فى آن كون فكر الحركة الإسلامية يحتفى بوصله مع الفكر الغربى اقتصاديّاً واجتماعياً وسياسياً ثم يدّعى انفصاله عنه ثقافيا وحضارياً من باب الزيف والبهتان.
فى محاولته لتطبيق منهج التحليل النفسى على ظاهرة الخطاب الإسلامى والعربى يقول جورج طرابيشى "مددت الخطاب العربى المعاصر على سرير التحليل النفسى واكتشفت ماهى معيناته اللاشعورية لا معيناته المعرفية والايدولوجية فحسب واكتشفت فيه خطاباً عصابياً مريضاً بالغرب، بعقدة الغرب والتفوق الغربى ومريضاً بالجرح النرجسى [15]"
منطلقات هذا المبحث:
جوهر مبتغى هذا المبحث يهدف الى إماطة اللثام عن زيف الخطاب الإسلامى السودانى اللجوج وجهاز مفاهيمه المراوغ وتهافته وانتهازيته ثم يوضّح صلته الحميمة بخطاب الرأسمالية النيولبرالية. سبيلنا الى ذلك تناول ورقة نشرها أستاذ أمين حسن عمر (أ.ح. عمر) فى صحيفة سودانايل الإلكترونية فى سبتمبر 2008 بعنوان "مقاربة الإنقاذ للمشروع الإسلامى وأثرها على مستقبل الإسلام بالسودان" ولكننا لانستهدفه وحده وانما مع لفيف من انتلجنسيا الأخوان المسلمين ونتناول أيضاً انتاج نخب أخرى شاركت فى صناعة خطاب الحركة الإسلامية.
لاندّعى فى نقدنا للتجربة براءة موضوعية مطلقة كما قال جورج طرابيشى ولانتبرأ من عواطفنا النبيلة ولاينبغى لنا كون بحثنا هو خطاب فى خطاب.
لقد اجتمع انتلجنسيا الحركة الإسلامية السودانية الرثة على ضلال مبين بدأ بالاحتفاء بالحدود وتخويف الفقراء وأهل الهامش بها والتبشيع بهم/ن واذاعة وتلفزة أسماء الضحايا الضعفاء عبر النشرات الأساسية وبذلك انتقلت الحركة من تعميم الخاص عقابياً الى خصخصة العام وبينهما أثارت النعرات القبلية والإثنية ووظّفتها لكسر شوكة المعارضة المسلحة. ارتكزت الحركة على تراث عربسلامى ماهل من التكفير والاضطهاد والاغتيالات والتحريم والفتاوى والزندقة. واكتسبت خبرات غنية فى أن تفاوض وترشى وتشترى وتبيع ذمم القريب والبعيد.
اذا كان منطق أخوان الصفا قبل ابن رشد بقرنين يقوم على "ان الشريعة الإسلامية قد مرضت ولابد للفلسفة اليونانية من أن تطهرها من أمراضها [16]" فان انتلجنسيا الحركة الإسلامية الرثة يجرّون جيفة جثمانها حثيثاً نحو النيولبرالية فتتعطّن عِتّتها.
حين يقول أستاذ أ.ح. عمر "ولا يزال الغبار يثار حول ما يسمى بالتجارب الإسلامية في السودان وغير السودان أملاً في نقض الإرادة الوطنية هنا وهناك والتي كفرت بجدوى مشروع التبعية الغربي . ولا شك أن إفلاس المشروع الغربي للعالم الإسلامي وإفلاس دعاته من الليبراليين أو الاشتراكيين قد جعل همهم الأول هو محاولة نقض الإسلام"
فهو يحاول فى غمرة العبث والفصام الفكرى ومن دون الاستناد الى شواهد حقيقية أن يميّز خطاب الحركة الإسلامية عن الخطاب الليبرالى ومشروع التبعية الغربى. ظروف العولمة المعاصرة تفرض تشابك علاقات اعتماد اقتصادية وسوشيوسياسية وثقافية معقدة بين الدول بحيث لاتستطيع دولة ادّعاء الانفلات من ذلك التشبيك وإزاء هذا الواقع تصبح "الجهود الرامية الى تحقيق الدولة الإسلامية ليس فقط محكوم عليها بالفشل المصحوب بتكاليف انسانية ومادية رهيبة، ولكنها أيضاً تقود الى عكس ماتسعى اليه أوماهومفترض فيها[17]"
سمات خطاب حركة الإسلام السياسى المعاصر
يمتاز خطاب حركة الإسلام السياسى السودانى المعاصر بأربع سمات:
السمة الأولى: شمولية إيديولوجيا الحركة الإسلامية وأفقها الفكرى المسدود.
للبحث عن شمولية وعنف الحركة الإسلامية نستقصى ونتحرّى عن مفهومين:
(1) ان الإسلام هو دين ودولة
وقد قال كثير من المفكرين المسلمين والعرب بأن لا وجود لكلمة الدولة فى النص القرانى ولافى الأحاديث (منهم عبدالله النعيم وجورج طرابيشى) . رغم ذلك أصبح المفهوم جزءاً من منتج صناعة الإيدولوجيا الإسلامية منذ أن سكّه حسن البنا وهو جزء من خطاب حركة الأنصار وحزب الأمة كون إمام الأنصار هو "إمام الدين والدولة"
(2) مفهوم الحاكمية الإلهية وولاية الفقيه
يهيئ هذا المفهوم لشمولية (توتاليتارية) وأقول إستالينية الحركة الإسلامية حيث أن الشأن الاجتماعى الاقتصادى يكون معقوداً على النص الإلهى المؤنسن وكلمة الفقيه النهائية. يعزى جورج طرابيشى عنف تجارب الحركة الإسلامية الى فكرة الحاكمية الإلهية ، ذلك لأن مأساة الإيديولوجيا الإسلامية ومأساتنا معها تنبع فى أنها "رأت النور فى عصر ومرحلة موت الإيديولوجيات [18]" وبعد فوات عصرها ويقصد بذلك الإيديولوجيات التى استولت على السلطة فى ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية وروسيا الستالينية وأضيف حركة البعث العربية. يزيد جورج طرابيشى بأن تلك الإيديولوجيات لم تكن عنيفة إلا حينما استولت على السلطة خلافاً لحركة الأخوان المسلمين التى ولدت عنيفة قبل أن تستلم السلطه ومارست الاغتيالات.
يفسّر هذان المفهومان عنف الحركة الإسلامية فى السودان ، سيّان فى حالة كونها تتضارى بالحكم العسكرى القائم (نميرى) أو تحت حكمها العسكرى الذى نكرته ثم قرّت به لاحقاً أو فى مرحلتها الانتقالية الحالية حتى 2008. وعنفها ودمويتها وضيق أُفقها وإقصائيتها واستعلائها البائن يرتبط بما لامزيد عليه بظلمها الطبقى والاجتماعى وخطها الرأسمالى النيولبرالى المتوحّش. وهى أكثر شراسة من النازية حالة كونها تقوم على نقاء العرق والدين (العربسلامى) معاً وكونها وهى كما يقول جورج طرابيشى "تناضل فى أفق مسدود تاريخياً عليها، هذا اعتقادى العميق، هى فى مأزق، حتى ولو انتصرت، فهى فى مأزق [19]"
السمة االثانية: نكران التناقضات الاجتماعية والرهان على صراع الحضارات (الثقافات).
يتطابق خطاب الإسلام السياسى مع خطاب المركزية الاورو-أمريكية بل ويكمّل أحدهما الآخر. ينكر الخطابان تاريخ التحولات والتغيرات المتبادلة للمجتمع وديانته والذى يمتلئ بالتفسيرات المختلفة للعلاقة بين العقل والإيمان[20]. ثم يتقاسمان "الفكرة الثقافية القائلة بأن المسارات المختلفة للشعوب لها خصوصيتها المتميزة غيرالقابلة" للمقايسة والمعايرة والتقييم. جميع تيارات الإسلام السياسى تعلن خصوصية الإسلام دون سائر الديانات ولذلك تختار أن تقود معركتها على أرضية الثقافة.
وبدلاً من مناقشة الدوغما (العقائدية) التى تؤلف الشريعة (بحسبان الشريعة هى العقائد والعبادات والمبادئ الأخلاقية وأحكام المعاملات) ينصب اهتمام منظرى الإسلام السياسى بالشكل الاجتماعى والتقليدى الشعائرى للدين، وهذا هو جوهر الفراغ الواسع الذى ينطوى عليه هذا الفكر. التأكيد على الشعائر يبرر "استراتيجية الإمبريالية فى إحلال مايسمى بصراع الحضارات بديلاً للصراع بين المراكز الإمبريالية والأطراف المهيمن عليها حسب سمير أمين [21]. إن التشديد على الحضارة (الثقافة) يسمح للإسلام السياسى بأن يحذف من كل مجالات الحياة المواجهات الاجتماعية الواقعية بين الطبقات الشعبية والنظام الرأسمالى العالمى الذى يضطهدهم ويستغلهم[22]".
فالإيديولوجية (الجماعية) على الطريقة الأمريكية، التى يجرى الترويج لها حاليّاً، تعمل على إخفاء الوعى والصراع الاجتماعى لتحل محلها (توافقات) جماعية مزعومة تتجاهل هذا الصراع. واستراتيجية سيطرة رأس المال تستخدم هذه الإيدولوجية لأنها تنقل الصراع من مجال التناقضات الاجتماعية الحقيقية الى العالم الخيالى، الذى يوصف بأنه ثقافى مطلق وعابر للتاريخ. والإسلام السياسى ظاهرة (جماعية) كونه يعبر عن جماعة ينتمى اليها الإنسان بالإرث كما لوكانت جماعة عرقية، وليس اعتقاداً شخصياً يختاره المرء أو لا يختاره، يؤمن به أولايؤمن. فالأمر لا يتجاوزتأكيد (هوية جماعية) [23].
الغريب فى الأمر إن " فكرة الدولة الإسلامية والتى جرى التأكيد عليها باسم حق تقرير المصير (الثقافى)....تقوم على النموذج الأوروبى للدولة ورؤية شمولية للقانون والسياسة العامة بوصفهما أداتين تستخدمهما النخب الحاكمة فى إطار عملية الهندسة الاجتماعية[24] " وهى ذات الشينة التى يتبرأ منها أستاذ أ.ح.عمر فى توطئته قائلاً: "فالحركة الإسلامية التي يتهمها خصومها بالإفراط في استخدام وسائل السلطان لم تعول في استراتيجيتها أبداً على هندسة المجتمع وذلك باستخدام وسائل السلطة بل ان شعارها دائماً كان هو أولوية المجتمع على الدولة" وهى ذات التجربة التى أنتجت ذات النموذج الشمولى السودانى باسم الإسلام. وخلافاً لمنطق "من أين جاء هؤلاء" الذى ورد على لسان الطيب صالح والذى يستبطن فرضية أن البنية النفسية للوعى السودانى قد تعاملت مع تجربة الحركة الإسلامية وتسلطها كصدمة فاننا نزعم بأن مشروع الحركة الإسلامية قد استثمرسيادة العقل الطائفى والصوفى وهيمنة الإبستيمية العربسلامية فى السودان ولم يهبط علينا من السماء كما وضّح د.عبدالله بولا [25]"
السمة الثالثة: معاداة الحرية والتحرّر والحداثة والاستنارة.
يرى أحد المنطلقات النظرية للإسلام "أن الشريعة، وبطبيعتها دائماً لا يمكن للمؤمنين بها أن يتبعوا تعاليمها الا من خلال حريتهم الفردية". هذا المنطلق يتماسك منطقياً كونه يستهدف مجتمعات تصبح مسلمة "انطلاقاً من قناعتها الذاتية وليس انسياقاً وراء إرادة الدولة القهرية [26]". هذا المنطلق العقلانى ينظر الى الفقه على انه محض تفسير انسانى لنصوص القرآن والسنة ولا يكتسب تفسير مسلم على آخر أية مزية اكثر من اختلافه مع مدارس أخرى.
خطاب الحركة الإسلامية يدعو الى الخضوع وليس الى التحرر. وحسب سمير أمين فان المحاولة الوحيدة لقراءة الإسلام فى اتجاه التحرر كانت تلك الخاصة بالمفكر الإسلامى السودانى محمود محمد طه. "إن الشريعة وبطبيعتها دائما لا يمكن للمؤمنين بها أن يتبعوا تعاليمها الا من خلال حريتهم الفردية، وإن مبادئ الشريعة تفقد سلطتها الدينية وقيمتها الدينية عندما يجرى فرضها من قبل الدولة[27]". والإسلام يرفض كل ما أنتجه التفاعل بين الإسلام التاريخى وبين الفلسفة الأغريقية فى زمانه. ولذلك ليس للحركة الإسلامية علاقة بالأُصولية التى توصف بها أو الأصالة والتاصيل اللتين تدعيهما لنفسها.
الخطاب الذى تزعم الحركة الإسلامية بأنها تقدّمه كبديل للحداثة الرأسمالية الغربية ذو طابع سياسى وليس دينى. ومايسمى بالمشروع الحضارى والنهضة والإستراتيجية القومية الشاملة ماهو إلا اهتمام بالشكل التقليدى للدين وممارسة الشعائر من زكاة وصيغ بنوك إسلامية وتعدد المساجد الخ. "الديموقراطية المسيحية قائمة فى نطاق الحداثة ، وهى تقبل الفكرة الأساسية للديموقراطية الخلاقة، وكذا جوهر فكرة العلمانية. أما الإسلام السياسى فيرفض فكرة الحداثة[28] ".
يفتقد خطاب الحركة الإسلامية الى الاستنارة التى ينبغى لها أن توجد خارج الاختلاف والتعدد. ذلك لأن خطاب الحركة عربسلامى عنصرى يفتقد الحساسية والاستنارة. فهو لايخاطب اخوانه وأخواته المسلمين والمسلمات فى الهامش غير العربى (جبال النوبة والأنقسنا ودارفور) بإعلاء ثقافاتهم وتبجيلها بل بالحط من شأنها. وتخلو تقريباً كل خطابات صفوة حركة الأخوان المسلمين من هذه الحساسية.
لقد رسّخ خطاب الحركة الإسلامية خطاً موازياً لخطاب التعدد واحترام الاختلاف الذى اجترحته نخب سودانية مثل (على عبداللطيف وعبيد حاج الأمين وعبدالفضيل الماظ والتجانى يوسف بشير وحسن الطاهر زروق والأستاذ محمود محمد طه وعبدالخالق محجوب ..الخ) .
تم التعبير عن خطاب الاستنارة لدى تلك النخب فى أكثر من موقف وبرنامج وأشواق ووجدان نتخيّر منها النماذج التالية:
استنارة التجانى يوسف بشير وهو ينشد:
لقد صار قلبى قابلاً كل صورة *** فمرعى لغزلانٍ ودير لرهبان
وبيت لأوثانٍ وكعبة طائفٍ *** وألواح توراة ومصحف قرآن
استنارة حسن الطاهر زروق وقوى اليسار:
وقف القيادى الشيوعى ونائب الجبهة المعادية للاستعمار فى دوائر الخريجين حسن الطاهر زروق (ح.أ. زروق) فى 31ديسمبر1955 امام الجمعية التأسيسة فى مناقشة مشروع الدستور المؤقت مطالباً بأن يضمن الدستور "المشاركة الواسعة فى الحكم، وأن يوفّر الحريات العامة وحرية العقيدة وحرية اعتناق الآراء السياسية والعمل من اجلها". وطالب بتعديل القوانين والسياسات حتى تتسق مع الدستور "وبخاصة ماتعلق منها بالحريات العامة كقضايا الأجر المتساوى فى الشمال والجنوب، والأجر المتساوى للعمل المتساوى للرجل والمرأة، وقانون الصحافة وبعض مواد قانون العقوبات [29]"
وفى مناقشة ميزانية التعليم أمام البرلمان قال ح.أ. زروق "أما عن الأموال التى ستنفق على التعليم فى الجنوب فأريد أن أقول أنه لو كان الأمر بيدى لضاعفت هذا المبلغ" الى ان يقول "ان الأموال التى صرفت على التعليم فى الجنوب فى الأعوام الماضية لتعد ثروة عظيمة بينما نجد ان العدد الذى حصل على التعليم قليل جدا فإلى أين ذهبت كل هذه الأموال؟[30]"
وجاء ضمن خطاب ح.أ. زروق وهو يناقش خطاب الدورة فى البرلمان "لم يذكر شئ واضح فى هذه الدورة عن الجنوب فتجاهلت الحكومة أن القومية فى تلك الجهات تختلف عن القومية فى الشمال ولم تضع شيئاً يناسبها أو يحمى الجنوبيين من استغلال الجلابة وغيرهم، نعم قدمت الحكومة بعض ارتفاعات فى الأجور للسلاطين ورجال الجيش والبوليس لأنهم يمثلون الجهاز الحكومى وتجاهلت الموظفين والمزارعين وغيرهم، وماذا يمنع الحكومة من تطبيق الأجر ليتساوى بين الشمال والجنوب طالما انهم يؤدون نفس العمل وبدرجة متساوية وطالما أنه لاتوجد مشاريع انتاجية ترفع مستوى المعيشة [31]" وفى مناقشة سياسة الحكومة الاقتصادية والمالية وقف ح.أ. زروق يقول "أما عن السياسة الاقتصادية بالنسبة للجنوب فتنحصر أهميتها فى رفع مستوى القوة الإنتاجية اذا أردنا الاستقرار السياسى ووحدة البلاد التى نحرص عليها جميعاً. وللأسف فان شيئاً من هذا لم يحدث فى الجنوب [32]" كما يقول أيضاً فى نفس مجلس النواب فى جلسة اخرى "المصير الذى نريده لبلادنا يا سيدى الرئيس يجب أن يضع فى اعتباره وحدة شعبنا وتوحيده فى الكفاح من أجل التحرر ونحن نعلم أن هناك فى المديريات الجنوبية تجمعات قبلية وقومية قهرها الاستعمار وخلفها فى وضع متأخر بدائى ظالم فعلينا أن نخلصهم من هذا التأخر والقهر القومى ونعطيهم حقهم فى وضع نظمهم المحلية وتنظيم وضعهم الخاص فى نطاق وحدة البلاد ومصلحتها العليا [33]"
تقول مذكرة أرسلتها الجبهة المعادية للاستعمار للسيد اسماعيل الأزهرى رئيس مجلس الوزراء والسادة الوزراء "لم تضع الحكومة سياسة صحيحة لتطوير الجماعات القومية فى الجنوب نحو الحكم المحلى أو الذاتى واتخذت إجراءات سطحية كتعيين بعض الوزراء الجنوبيين وتركت الجنوبيين فى نفس الحالة القديمة وبهذا خلقت الحكومة ظروفاً ملائمة لنسف وحدة البلاد وإضعاف الكفاح الوطنى[34] " وفى بيان ورد فى الميدان عن حزب الجبهة المعادية للاستعمار يقول تحت فقرة عن الجنوب "فى الوقت الذى كانت ترتفع فيه الصيحات الهدامة منها مايدعو لفصل الجنوب (بالقوة) وفى الوقت الذى كانت فيه أحزابنا الشمالية تؤجج من روح العداء والكراهية بين الشمال والجنوب كان حزب الجبهة هو أول حزب يتقدم بالحل العلمى السليم لهذه المشكلة: مشكلة العلاقة بين شقى القطر – (حماية التجمعات القومية من القهر القومى وإعطاؤها حق الحكم الذاتى وتنظيم قوانينها المحلية وفق ارادتها فى نطاق وحدة البلاد ومصلحتها ومصلحتها العامة وتصفية الحكم القبلى) " [35]
المقتطفات أعلاه توضح تناغم وانسجام موقف ح.أ.زروق والجبهة المعادية للاستعمار المستنير فى ذلك الزمن الغابر فى حماية التجمعات القومية من القهر القومى وإعطائها حق الحكم الذاتى وفق ارادتهم ودون ضغط واكراه و تطبيق الأجر ليتساوى بين الشمال والجنوب و"حماية الجنوبيين من استغلال الجلابة" ولعل تلك أول مرة ترد فيها عبارة الجلابة.
نبرة الدفاع الحمائية العطوفة فى مقتطفات ح.أ.زروق لاتصدر من باب ادعاء أجوف من موقع امتياز ضمن نظام الخطاب المهيمن أو زيف الأنثربولوجيا المَتْحَفيّة للدفاع عن المهمّشين إنما يمهّد الفضاء حتى يتحدّث المهمّش المسحوق . وزروق ، فى نظرى، لا ينطلق من مفهوم الصّدَقة والإحسان، صدَقة "لسانك تتبرّع به لمن لا لسان له" وهو مفهوم أقرب لمفهوم الزكاة الإحسانى. ليت المجال يسمح للحديث عن استنارة من أسميتهم أعلاه فرداً فرداً. وليت لى من الزمن براح فى ذكر استنارة الأستاذين النيّرين محمود محمد طه وعبدالخالق محجوب حين قال الأول تعبيراً بليغاً هو"حل مشكلة الجنوب فى حل مشكلة الشمال" أو حين قال: "ساووا السودانيين فى الفقر الى أن يتساووا فى الغنى".
فى مقابل خطاب الحداثة التحررى والمستنير هذا دعنا نتأمل خطاب الحركة الإسلامية عبر استاذ أ.ح.عمر، أحد قادتها، فيما يخص نفى التعدّد الدينى فى السودان. يقول:
(1)" فالإسلام قد صار وحده هو المرجعية التي يحيل إليها العلمانيون عند محاكمة كسب الدولة أو الحركة الإسلامية. وهذا هو النجاح الأكبر للحركة الإسلامية. لأن مطلوبها الأعظم كان هو عودة التحاكم للإسلام واعتماده المرجعية الأساس لقياس كسب الفرد أو المجتمع أو الدولة. ولاشك أن كسب الأفراد والجماعات والدول يقصر كثيراً عن المثالات الإسلامية"
(2) ثم يقول على هدى رؤية مشروع ميثاق السودان الذي أصدرته الجبهة الإسلامية القومية إبان الديمقراطية الثالثة: "وانطلاقاً من هذه الرؤية الكلية ومن هذا التوجه صدرت المراسيم الدستورية والتي نصت على ان الإسلام هو الدين الهادي للسودان وهو الغالب للمجتمع يتجدد تجاوزاً للجمود ، ويتوحد تجاوزاً للطائفية وهو الشريعة الملزمة الموجهة لقوانين الدولة ونظمها وسياساتها لكن الدين الكتابي أو المسيحي أو الدين العرفي اختيار حر للجميع لا إكراه ولا حجر في العبادة تراعيه الدولة وقوانينها [36].
(3) يقول أ.ح.عمر لتحقيق "التنمية السياسية" والتى هى رديف ذو"أهمية عالية إلى جانب التنمية الاجتماعية والاقتصادية" قررت الإستراتيجية الشاملة أن "يقوم البناء السياسي في السودان على الوفاء بعهد الاستخلاف عن الله . بتأكيد سيادة المجتمع المؤمن، من خلال مؤتمراته التشريعية ونظامه الاتحادي الذي يراعى التنوع ، ويتقوى بحصيلته في أرضه"
(4) كما نصّ المرسوم الدستورى على "أن الحياة العامة ووظائفها مسئولية وأمانة وجهاد تؤديه القوات المسلحة وقوات الشرطة والأمن للدفاع عن الوطن" أى جهاد معلن ضد مواطنيه من ملة "الدين الكتابي أو المسيحي أو الدين العرفي". ويشدد فى مكان آخر من الورقة على "دعوة شباب الأمة للتدريب العسكري والإعداد الجهادي لتأصيل عملية التدريب فتربطها بالجهاد"
(5) وحددت الاستراتيجية القومية الشاملة للدولة (1992 - 2002م) للتعليم العالي "تأصيل الثقافة والنأي عن التغريب وجعل اللغة العربية هي الأصل في التدريس والبحث والاهتمام بدراسة اللغات والثقافات الأجنبية."
ثم الاستعلاء والغطرسة على من سبقهم من المسلمين كونهم سعوا "لإعادة المجتمع إلى المشارب الإسلامية النقية"!! أو كما قال.
(6) وتأتى قرارات ثورة التعليم العالي التى أصدرها رئيس الجمهورية في الرابع من ديسمبر 1989م بـ "الفراغ خلال العام الدراسي 90/1991م من الدراسات التحضيرية الخاصة باعتماد اللغة العربية لغة التدريس في التعليم العالي" استكمالاً لعدم الحساسية ونفى التعدّد.
الإسلام السياسى يرفض فكرة الحداثة، ويرفض مبدأ الديموقراطية ذاته لأن مبدأ الشورى مقيّد بتحريم الإبداع، حيث لايقبل الا بتفسير التقاليد (الاجتهاد) ، فالشورى لاتتجاوز أيّاً من أشكال الاستشارة التى وجدت فى مجتمعات ماقبل الحداثة، أى ماقبل الديموقراطية [37]. ينظر الإسلام السياسى "الى الشريعة بوصفها نسقاً معيارياً إلهياً وخالداً يقوم على القرآن والسنة" ولا ينظرالى "الفقه على انه محض تفسير إنسانى لتلك النصوص المقدسة [38]"
واذا توسلنا بمفهوم "العقل العام والتعليل العقلى وليس الإيمان والدافع الدينى" لايصح لنا توقّع اتفاق المسلمين العام أو الدائم "على السياسة أو التشريع الذى يعبر عن معتقداتهم الدينية [39]" حتى لو كان المسلمون هم الأغلبية المسيطرة والأكثرية.
يقول أ.ح.عمر "تطور النظام السياسي تدرجاً من العسكرية القابضة إلى نظام المشاركة الشعبية إلى التعددية ثم إلى التعددية التي يعززها الوفاق السياسي الشامل عبر اتفاقية السلام الشامل وكل تلك المراحل والتي تمت عن رؤية مسبقة وعلى بصيرة بالتحولات والتحديات كل ذلك يحسب للحركة الإسلامية وللإنقاذ" وهذا من باب اصدار حكم من دون الاستناد الى شواهد حقيقية اذ نحن نكتب هذا الكتاب فى نهاية عام 2008 وأمامنا كامل المشهد السياسى السودانى ومن ضمنه اعلان صلاح عبدالله قوش وعلى رؤوس الأشهاد أن مهمة جهاز الأمن لا تقف عند جمع المعلومات. هذا غيض من فيض خروقات عديدة للدستور منها تماطل فى تطبيق اتفاقية السلام الشاملة. وحق على الحركة القول ان الحركة الإسلامية أعطت والحركة الإسلامية أخذت من حريات على سبيل كلمة الإنجيل.
السمة الرابعة: غياب مفهوم جذرى للعدالة الاجتماعية.
هذا مرتبط بغياب التحرر فى الخطاب كونه يركز على مفهوم أضعف من المساواة وأبعد ما يكون عن مفهوم العدالة الاجتماعية. الأولى راهنية والثانية تاريخانية. العدالة الاجتماعية تنظر فى تاريخ علاقة الإنتاج أما مفهوم الزكاة ينطرح على مستوى التوزيع. زوبعة الزكاة ليس لها علاقة أصيلة بحل المشاكل الاجتماعية التى تواجه الطبقات الشعبية (تقرأ المستضعفين). وبهذا فان حركة الإسلام السياسى فوق مأزقى الحداثة والتحرر رزئت بغياب العدالة الاجتماعية. مسألة العدل بالنسبة للحركة لا تتجاوز الفهم القانونى لذلك تهتم بالجزاء والحدود الشرعية اكثر من اهتمامها بتوزيع عادل للموارد والنفوذ.
الحركة الإسلامية السودانية المعاصرة هى سلطة الطبقة العسكرية الحاكمة، سلطة لا تستطيع ولا ترغب فى اتخاذ موقف معادٍ للاستعمار الحديث والإمبريالية النيولبرالية وانما تقدّم له هديتين ، اذا تجاوزنا منافع تبادل المعلومات المخابراتية، وهما كسر شوكة الحركة المعادية للتبعية والنيولبرالية فى السودان ثم تعبيد الطريق للتدخل الإمبريالى الفظ واهدار السيادة الوطنية بصناعتها لأزمة دارفور ثم التقسيم اللاحق للسودان.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق